الأحد، ٢٥ آذار ٢٠٠٧

أطلق جناحي - الكاتب: ابو لهب



رميت بنفسي على السرير بجانب أم جميل تواقا لسماع أم كلثوم تغني الأطلال ومستسلما لقدري بالقبول بتحرشات أم جميل الجنسية والتي لولاها لكان صباحي في غاية الكمال والإنسجام. كم أتمتع بهذا الوقت في هذا اليوم الذي يجبرني سياقه من الخلود إلى السكون وتأجيل هموم الحياة ، ولو إلى حين. أشبه صباح يوم الجمعة بالسفر إلى مكان بعيد لأني أصبح فيه سجينا في البيت تماما كما تسجنني عربة السفر، فأسمح لنفسي بالتمتع بهذه الساعات القليلة لأعود بعدها للخوض في صراع الحياة والذي يكون أصعب ما فيه سبر غور نفسي .

بعد دقائق، وصل قرص الموسيقى الذي أمضيت ساعات طوال في سرقة أغانيه من الإنترنت إلى مقطع الأغنية الشهير "أعطني حريتي أطلق يدي" وتخيلت أولا أني سمعت "أعطني حريتي أطلق جناحي." صرفت هذه الفكرة بسرعة وانتبهت قبل فوات الأوان للتجاوب مع مداعبات أم جميل. ولكن الشريط أخذ يدور حول هذا المقطع بأصرار غريب: "أعطني حريتي أطلق جناحي". قمت بعد أن أكدت لي عين أم جميل الواحدة أنها سمعت ما أسمع ، وتوجهت نحو قبو المنزل بتثاقل. وما أن نزلت الدرجة الأولى من الدرجات العشر ، حتى غشاني الشعور المخجل من الخوف الغريب الذي حملته من أيام طفولتي. أنا أبو لهب في تقمصي العصري كرجل علماني ، وبكل نظرياتي المنطقية النافية لأي أحتمال لوجود الجن، أحمل عقدة الخوف ، بل الرعب منهم بكل جزئ في جسمي. عقلي بدأ يقول مستحيل أن يوجد الجن وهذا أقوى سبب في بطلان القرآن. ولكن القشعريرة التي سرف في فقرات ظهري قالت لي ببساطة تبا لك ولنظرياتك.

وصلت إلى جهاز الصوت المركزي وأنا ممتقع الوجه خوفا ، وبعد نظرة سريعة عليه وهو يكرر كاللازمة "أعطني حريتي أطلق جناحي" قررت أن القرص الضوئي اهترأ وأنه حان وقت تغييره. أخرجت قرص الأطلال ورميته فوق كومة النفايات القريبة ، ثم أدخلت بدلا منه وبسرعة قرص لأغاني فيروز واستدرت للهرب من هذا الحضور الإجباري مع الجن.

لم أستطع أن أحرك قدمي ، واشتدت القشعريرة حتى خلت أن الفقاعات الصغيرة على جلدي ستتفجر ليسقط منها شعر جسمي على الأرض كعيدان نقش الإسنان. كان واقفا أمامي ، شعلة من الضوء تشكلت على هيئة إنسان شديد البشاعة ، بأنف أفطس وشفة سفلى متدلية فوق لحية من ريش ممعوط ، وفوقهما انبعث ضوء أحمر من ثقبين متجاورين. لم يسعفني صوتي وتمنيت عندها لو أن محمدا كان صادقا فيما ادعى ولو أني آمنت به ، لتمكنت على الأقل من البسملة أو قراءة آية الكرسي لأطرد هذا الشيطان المريد من أمامي.

شعر هو في الحال بخوفي ، فخطا بوداعة خطوتين للخلف واستدار نصف استدارة ، فزاد من بشاعته كتلتين من اللحم الاحمر تدلتا على ظهره ، تكسوهما هنا وهناك طبقة من الريش المنتشر بفوضوية وذبول. قال دون أن ينظر إلي: أرجوك أن تسامحني يا عزيزي أبا لهب ، ولكن كان لا بد لي من لقائك .

قلت له : من أنت ، ولكن هاتي الكلمتين لم تبرحا حنجرتي وخلت أني سأختنق عليهما.

قال: أبو لهب ، ليس عندي متسع من الوقت ، سيكتشفون غيابي الآن في أي لحظة ولهذا أرجو أن تصغي جيدا لما سأقول.

تمكنت عندها من أخرج كلمة واحدة: الرحمة.

بكى صاحبي لما رأى كلمة الرحمة تتدحرج دوننا. قال بصوت متهدج وهو يرشف ضوءا أصفرا خرج من أنفه كالقيئ: إعذرني يا عزيزي ، ليس الأمر بيدي ، أرجوك ! هذه الكلمة تمزقني.

صمت عندها على غير عادتي خوفا ولكن أيضا بفضول بدأت براعمه تتفتح في عقلي على حساب كريات القشعريرة التي أخذت تخبو من فوق جلدي وشعرت أن شعري بدأ هو الآخر بالركود.

قال: إسمي سعادة ، ورثت هذا الإسم أبا عن جد من جدنا الأول سعادة. ولكن شاء حظي أن أكون من الكتائب الملائكية التي أمرت بمزاحفة قريش يوم بدر. أما اليوم فبإمكانك أن تناديني شقاء

أبرقت الدنيا في الخارج ، وشردت في ثنايا عقلي شاردة حرونة سائلتني كيف يكون البرق من دون السحاب.

نظر شقاء إلى كوة القبو بقلق ظاهر وقال وقد اضطرب صوته بسرعة وكأنه يتمتم لنفسه: أمر اكتشافي الآن لن يطول، جئت لأوصل رسالة من مخضرمي جيش بدر الملائكي للمسلمين.

نحن جنس الملائكة خلقنا من أجل أهداف كريمة ، برمجنا عليها من الأزل في اللوح المحفوظ.

هدفنا في الحياة هو بث الرحمة في الكون.

أن ننشر الحب والسماح بين الأحياء

والذكريات الطيبة عن الأموات

أن نعالج المرضى ، أن نشد من عزم المنكوبين

هدفنا أن ننشر الجمال والمحبة

أن نبذل أرواحنا في سبيل سعادة الطفولة

أن نلهم الفن في أرواح الناس ، أن ننشر العطف والحنان بينهم.

توقف بعد أن اشتد البرق في الخارج ، وأنبأتني شاردة أخرى أن هذا البرق لم يتبعه رعد.

نعم هدفنا هو نشر الرحمة ، حتى هذه الكلمة شوهتموها ، هل تعرف معنى الرحمة يا أبا لهب؟ تذكر أن لا دخل لمعناها بتخفيف العقوبات عن المجرمين ، الرحمة يا حبيبي هي أرقى مشاعر الحب ، هي الحب الخالص الملفوف بالرقة وبالعطف والحنان والشفقة ، هذه الكلمة مشتقة من رحم المرأة موطن الحب الإنساني وأساسه. ولكن للأسف فإنكم منذ ألف وأربع مائة عام حولتموها إلى كلمة محاكم وذنوب.

حاولت أن أقول شيئا ما ولكنه لم يكن مهتما أن أشاركه أطراف الحديث

تصور كيف كان شعورنا عندما جاء جبريل ليلقي علينا الأوامر بالإستعداد للقتال. لم تنفع كلماتنا بالهدوء ووجوب الإلتزام بشريعتنا في نشر السلام، وعندما قاومنا بعناد ، مسخت الله أجنحتنا ، وشوهت أجسامنا ووجوهنا. أن يقتل أحدنا نفسا يشبه أن يأكل أحدكم طفله ! عفوا عزيزي لم أقصد أن أزعجك ولكن خانني لساني المشوه.

آه يا أبا لهب لو رأيت وسامتي قبل بدر! ولكن الله تعالت شائت أن تمسخني بهذا الشكل القبيح حتى تثير سحنتي الرعب في قلوب قريش.

كشر عندها عن أنياب رهيبة حسبته استلها ليأكلني فتراجعت إلى الخلف حتى أوقفني الحائط. قال: هذا ما أعنيه بالضبط ، هذه لم تكن تكشيرة ولكنها كانت أبتسامة. جنسنا يا عزيزي لا يكشر لأحد.

استأنف بعد نفس عميق: أؤكد لك أن كل الجيش الملائكي الذي شارك في بدر لم يرفع سيفا أو رمحا ضد أحد. لقد مسخت الله أجنحتنا لتمنعنا من الهرب ، وأجبرتنا بدلا منها على امتطاء الخيل . ونحن يا عزيزي تجرح كرامتنا أن نمتطي مخلوقا. هذا ليس من طبعنا ومبعث للألم الشديد في صدورنا.

في بدر تظاهرنا بدخول القتال ، وبالرغم من أننا لم نقاتل ، فقد تكبدنا خسائر فادحة عندما جعلنا من أجسامنا دروعا نقي قريشا بها من ضربات مرتزقة الجن الذين لملهم جبريل للقتال بدلا منا بجانب محمد. أما في أحد وحنين فقد انتظمنا بين الصفين عازمين على الموت لحماية الأخوة الأعداء من سيوف بعض ومن سيوف الجن ، ولكن سيدنا إبليس شاء أن يحرمنا من جلال التضحية وشرف الوفاء ، فصرف لأمر في قلبه قوات الجن عنا.

توقف شقاء ثم قال بصوت ملأه الفخر: كنت أنا يومها من رفع شعار "لا للسيف ! لا للحرب ! حبا حبا يا قريش"

أشتد عندها البرق اللاغيمي واللارعدي ، وفهمت من تصرفاته القلقة أن هذا الضوء الهائل يعني أن فرقة المطاردة قد أصبحت على قاب قوسين أو أدنى من أسره. فقررت أن أفضل ما أستطيع أن أفعله هو الأستمرار في الإستماع لهذا المخلوق البائس.

قال: لقد اقتربوا جدا الآن. أرجوك أن تفهم . عليك أن تدرك أن الملائكة لا تقاتل ، الملائكة لا تحمل السيوف ، لقد خلقنا للحب والرحمة ولن يغير قرآن محمد أي أنملة من طبيعتنا. نحن يا حبيبي لا نلعن الزوجات إن هن رفضن نداء أزواجهن للفراش ولا نعذب المذنبين في جهنم بعد البعث.

قاطعه عندها صرخة غضب من جميل، انحدرت علينا من الطابق العلوي كالوحش الجائع. قال شقاء بتوسل: أرجوك يا أبا لهب، إذهب إليها ، إجعلني أشعر بأني كنت سببا في أمور الحب من جديد.

أشتد الضياء عندها في القبو فوق الإحتمال ، فأطلقت لساقي العنان ، وما هي إلى ثوان أو أقل، حتى وجدت نفسي ممددا ألهث بجانب إم جميل في الفراش. ألصقت جسمها العاري بجسمي واحتضنتني. فالتفت إليها بنهم لأمارس الحب معها بدون أي حاجة لتخيل أن جسدها هو جسد جارتنا في أحضاني. ما أن اشتد العناق والتحمنا في قبلة حميمة ، حتى سمعت في أذني سعادة يهمس بهدوء وحنان: أمر خلاصنا في يداك يا عزيزي، لا تبت يداك يا أبا لهب ، لا تبت يداك.

ليست هناك تعليقات: